تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 402 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 402

402 : تفسير الصفحة رقم 402 من القرآن الكريم

** وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
قال قتادة وغير واحد: هذه الاَية منسوخة بآية السيف, ولم يبق معهم مجادلة, وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين, فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه, كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} الاَية, وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} وهذا القول اختاره ابن جرير, وحكاه عن ابن زيد.
وقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} أي حادوا عن وجه الحق, وعموا عن واضح المحجة, وعاندوا وكابروا, فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم, قال الله عز وجل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ـ إلى قوله ـ إن الله قوي عزيز} قال جابر: أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف, قال مجاهد {إلا الذين ظلموا منهم} يعني أهل الحرب, ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه, فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً, ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً, ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط وهو أن يكون منزلاً لا مبدلاً ولا مؤولاً.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عثمان بن عمر, أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد, ونحن له مسلمون» وهذا الحديث تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن عمرو, أخبرنا يونس عن الزهري, أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود, فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم» قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله, فإن كان حقاً لم تكذبوهم, وإن كان باطلاً لم تصدقوهم» (قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة. وقيل عمار, وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه, ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان, لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل, وما أقل الصدق فيه, ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحاً.
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا أبو عاصم, أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبيد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا, إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل, فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال. وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضاً لم يشب, وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة, وذكر كعب الأحبار, فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. (قلت) معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد, لأنه يحدث عن صحف يحسن بها الظن, وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة, لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة, ومع ذلك وقرب العهد, وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل, ومن منحه الله تعالى علماً بذلك كل بحسبه, و لله الحمد والمنة.

** وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـَؤُلآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الْكَافِرونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الظّالِمُونَ
قال ابن جرير: يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل, كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب, وهذا الذي قاله حسن ومناسبته وارتباطه جيد. وقوله تعالى: {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما. وقوله تعالى: {ومن هؤلاء من يؤمن به} يعني العرب من قريش وغيرهم {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل, ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات.
ثم قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, وهكذا صفته في الكتب المتقدمة, كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} الاَية, وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين, لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده, بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضي عليه محمد بن عبد الله, فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي, وتبرؤوا منه, وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم, وإنما أراد الرجل ـ أعني الباجي ـ فيما يظهر عنه, أنه كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة, كما قال صلى الله عليه وسلم إخباراً عن الدجال: «مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية «ك ف ر, يقرؤها كل مؤمن» وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة, فضعيف لا أصل له, قال الله تعالى: {وما كنت تتلو} أي تقرأ {من قبله من كتاب} لتأكيد النفي ولا تخطه بيمينك, تأكيد أيضاً, وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه}.
وقوله تعالى: {إذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس, فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيل} قال الله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} الاَية, وقال ههنا: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمراً ونهياً وخبراً, يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً, كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى: «إني مبتليك ومبتل بك, ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظاناً» أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل, لأنه قد جاء من الحديث الاَخر «لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار» ولأنه محفوظ في الصدور ميسر على الألسنة, مهيمن على القلوب, معجز لفظاً ومعنى, ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم.
واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتاباً, ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب, ونقله عن قتادة وابن جريج, وحكي الأول عن الحسن البصري فقط, قلت وهو الذي رواه العوفي عن ابن عباس, وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم. وقوله تعالى: {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون, أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه, كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.

** وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات, يعنون ترشدهم إلى أن محمداً رسول الله كما أتى صالح بناقته, قال الله تعالى: {قل} يا محمد {إنما الاَيات عند الله} أي إنما أمر ذلك إلى الله, فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم, لأن هذا سهل عليه يسير لديه, ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان, فلا يجيبكم إلى ذلك, كما قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا به}.
وقوله: {وإنما أنا نذير مبين} أي إنما بعثت نذيراً لكم بين النذارة, فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد} وقال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} ثم قال تعالى مبيناً كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم, وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, الذي هو أعظم من كل معجزة, إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله, بل عن معارضة سورة منه, فقال تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم, ونبأ ما بعدهم, وحكم ما بينهم, وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب, فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي, كما قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا ليث, حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الاَيات ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى: {إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بياناً للحق وإزاحة للباطل, وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.
ثم قال تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيد} أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب, ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني, فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني, كما قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به, ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات {يعلم مافي السموات والأرض} أي لا تخفى عليه خافية {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل, كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم, وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل, فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.